التأمل بين إعمال القلوب وترويض العقل
💡 إن مما بحث عنه الإنسان قديما ولا يزال هو موضوع الراحة النفسية وصفاء الذهن والأثر الوجداني على النفس والمجتمع، إلا أن هذا البحث اختلف من مجتمع لآخر، واختلفت الطرق في الوصول إلى تلك الراحة النفسية، ومهما اختلفت الطرق؛ فإن طريق الوحي يظل هو الطريق الأسلم والأحكم، ومن اعتصم به وتمسك بهداياته وتدبر آياته تحققت له تلك الراحة النفسية، وربنا جل جلاله يقول: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"، فجعل التدبر مفتاح القلوب، والسبيل الموصل إلى الله، وإلى جنته ورضوانه، وبه تعرف السبل الموصلة إلى العذاب فتتعظ النفس وتحذر، ومن هنا يتضح لنا أن التدبر ليس عملية مرتبطة بالفكر وحسب؛ بل من آثارها الواضحة هو إعمال القلوب، وهذا مما تميزت به الشخصية المسلمة.
في المقابل نجد أن هنالك مجتمعات بحثت عن تلك الراحة
النفسية، ولكن بحثها لم يكن مستندا على أمر معصوم، بل كان مستندا على تجارب
مفكريها من الفلاسفة ولا سيما فلاسفة الفكر الشرقي القديم، ولم تكن طريقتهم قائمة
على إعمال القلوب، بل كان مستندا على ترويض العقل المفضي إلى الاتحاد بالجوهر
الكلي المطلق من خلال قوة التخيل، وتحقيق التوازن بين الثنائيات الكونية، سواء
القطبية منها كما في الفكر الصيني (ين ☯️ يانغ) أو في الفكر
الهندي القديم حين جعلوا الاتحاد بين المظهر الذكوري والمظهر الأنثوي كما فلسفة الشاكرات
سبيلا لاتحاد النفس مع الإله، "أتمان 🕉️ براهمان"، بينما جاء الفكر الباطني الغنوصي القديم بمبدأ الثنوية (الخير
والشر) ومبدأ الصراع بينهما.
وفي سبيل إعمال العقل قدم الفلاسفة العديد من التطبيقات
والرياضات الروحية، وهذه التطبيقات تميزت بخصائص، منها أنها تركزت على الاهتمام
بالجانب العقلي، واستندت على قوة التخيل والارتسام الذهني لإدراك حقيقة الاتصال
والاتحاد مع الإله! كما أنها بحثت عن المعرفة الباطنية من خلال الانعكاس على النفس
والاتصال مع الروح الكونية والتنعم بمخاطبة الآلهة.
ولما كانت تلك التطبيقات مرتبطة بالآلهة؛ فإن ثمة أمر
مهم هنا، وهو أن تلك التطبيقات قد صدِّرت في إطار ديني!، وأصبحت تلك الممارسات
التأملية هي عباداتهم وتلك هي طريقة تحقيقهم للسعادة، سعادة من شأنها أن يظفر
الفرد المتأمل بالتنعم بمخاطبة الآلهة، وهو أمر يبعث في النفس راحة ونشوة داخلية
مرتكزة على ترداد ألفاظ المانترات وصيغ التعويذات المقدسة.
ومن هنا أصبح للتأمل قواعد وأصول لا تتم ممارستها إلا من
خلال تأصيل فلسفي، وأصبحت الممارسات التأملية مرتبطة بالحياة الدينية والطقوس
الشعائرية في الفكر الشرقي القديم، ومن خلالها توجه الإنسان إلى الطبيعة لاستلطاف
رحمتها، كما توجه إلى الكون من أجل أن يحقق له رغباته وأمنياته، وتوجه إلى النفس
من أجل الوصول إلى المعرفة الباطنية، وتوجه إلى العقل للبقاء في حالة الوعي
الكوني.
ولم يعد التأمل بمفهومه الحقيقي وهو النظر
والتأمل في الطبيعة وسحرها، والتدبر في نظام الكون المتناسق، ويتبعه أثر نفسي
تشوبه العبرة، وتختلجه بيان عظمة الخالق –جل جلاله-، بل تعدت الممارسات التأملية
إلى أبعد من ذلك وأصبحت من الفلسفات التي تؤصل لضرورة التوازن بين الثنائيات
الكونية المنبثقة من الكل الواحد (المطلق)، وتأثير تلك الثنائيات على الكون
والوجود والإنسان بما تمتلكه من طاقة مؤثرة، هي من وجهة نظر معتقديها مدبرة للكون،
ولتصبح فلسفة شاملة لجميع شؤون الحياة، ولتحل تلك الفلسفة بمخرجاتها ومضامينها محل
الدين الفطري الذي يبعث على التوحيد لا التوحد، وعلى التدبر لا التأمل!.
وبناء على ما سبق فإن على المسلم أن يجتنب الطرق
الفلسفية لإعمال الفكر، وفي القرآن الكريم والسنة النبوية ما يغني عن ذلك التأمل
الذي يمارسه الإنسان في الفكر الشرقي القديم، ويزعم أنه يعلِّي من قيمة الإنسان
حين يرده إلى ذاته، ليتلقى المعرفة منها، وإن قيمة الإنسان الحقيقية حين يدرك
بوعيه أنه كائن مكرم، وأن الكون مسخر له، فهو لا يحتاج إلى عملية الاندماج مع
الكون، والمشاركة فيه للخلق والتدبير، وإذا كانت كل الكائنات البشرية وصلت إلى تلك
المرحلة، فمن يدبر من؟!، بل الأدهى والأمر أن وصلت بعض التصورات الفلسفية في
الجانب الروحي أن الكائنات الروحية هي من تدبر الكون، وترشد الإنسان إلى التنور والمعرفة!،
ويظل الجانب الأدنى من التصور الفلسفي للوعي الكوني أن تظل الجموع الغفيرة من
الكائنات البشرية التي لم تصل إلى مرحلة الاندماج والتدبر والخلق تحت رحمة ذلك
الإنسان المدبِّر، يدبر أمرها بعقله القاصر؛ ذلك لأنه ضل عن نور الوحي الإلهي،
والمعرفة أي معرفة كانت إذا لم تكن مستنيرة بنور الوحي الإلهي فهي معرفة لن تقدم
للبشرية إلا التيه في مسالك الوهم، والضياع في دهاليز الظلام.
🖋 @HossainAlsyed
تعليقات
إرسال تعليق