التوازن الداخلي للفكر والنفس مع القوة الكونية
💡 فكرة التوازن الداخلي للفكر والنفس مع القوة الكونية،
هي فكرة نابعة من التصور الفلسفي للكون في الفكر الشرقي القديم، والذي ينظر للكون على
أنه عبارة عن قوتين فاضتا عن الجوهر الكلي المطلق، وهذه القوتان تمثلان التفسير
المادي لبقاء الكون، فحاجة كل واحد منهما للآخر هو استمرار للبقاء، وتغلب أحدهما
على الآخر هو انهيار للنظام الكوني، وكذلك النفس والعقل يجب على الإنسان أن يوازن
بينهما في لحظة سكون، الاعتماد الكلي على العقل يؤدي إلى التشبث بالحياة المادية
والركون إلى الدنيا وحصول الغفلة، بينما الاعتماد الكلي على النفس يؤدي إلى
الرهبانية والتبتل والانقطاع عن الدنيا والهروب من مسؤوليات الحياة، والتوازن بين
العقل والنفس جاء من منظور فلسفي لتحقيق رغبات الفرد في الفكر الشرقي القديم حين
حاد ذلك الفكر عن نور الوحي الإلهي وعن منهج الأنبياء والمرسلين، وصُدِّرت الفكرة
عبر التأمل الكوني، وأصبح ذلك التأمل من أهم الطقوس الشعائرية التي يؤديها الفرد
في المجتمع الشرقي. وأضحت مسألة التوازن بين النفس والقوى الكونية من أهم المسائل
التي بحثها فلاسفة الفكر الشرقي القديم، كونها تمثل البنية الأساسية للكثير من
المعتقدات الدينية لديهم وفي مقدمتها تحقيق الخلود الروحي والتنعم بمخاطبة
الكائنات الإلهية!، وطريقتهم في ذلك هو تحقيق السكون النفسي والعقلي في آن واحد،
وهو سبيلهم للوصول إلى المعرفة الباطنية، الأمر أشبه ما يكون كالبحث عن موجة
إذاعية على جهاز الراديو حين توازن بالمعيار على الموجة المقصودة وتتغلب على
التشويش الموجود حتى تضبط المعيار وتصل إلى الموجة. وهكذا يتم تفسير الوصول إلى
المعرفة الباطنية من خلال التأمل الكوني والدخول في لحظة صمت لتنعكس التجليات
الإلهية على النفس!.
فالإنسان وفق الفكر الشرقي القديم لا يمكن له تحقيق
السعادة إلا حين ينجح في ضبط الموجة الكونية له، وهي بدورها -أعني الموجة الكونية-
تحقق له رغباته وفق قانون العطاء، وهو قانون يأتي ضمن سلسلة من القوانين(1)
التي تحقق للفرد سعادته إن هو نجح في تحقيق الموازنه النفسية مع الكون، وقانون
العطاء يسبقه قانون النية، فما تنويه سيبهرك في تجليه، وهذا التجلي هو العطاء
الكوني، فالكون يعطي بقدر نواياك، وقانون الكارما هو من يحاسبك، إن نويت خيرًا
ستقطف ثمار الخيرية، وإن نويت شرًّا ستكتوي بناره، وهذا التفسير المادي الذي يجعل
من الكون هو المعطي والمدبر والشافي تفسيرٌ قاصر غير شمولي؛ ينسب العناية الإلهية
للإنسان إلى الكون، بينما يأطر حقيقة الإله في خيال الفرد المتأمل، همه هو تحقيق
التوازن بين النفس والكون، وغايته تحقيق الخلود الروحي!، وطريقتهم في ذلك "هو
الانقطاع عن الناس، والعيش في المغارات والكهوف، والامتناع عن الزواج والأكل
والشراب، وممارسة التأمل وترديد التعاويذ التي تستجلب الكائنات الغيبية، ويظن
البسطاء من الناس أنهم رجال صالحون(2)"، لكن الحقيقة كما يصورها الإمام
الذهبي -/-
فيقول: "والعابد العري من العلم، متى زهد وتبتل وجاع، وخلا بنفسه، وترك اللحم
والثمار، واقتصر على الدقة والكسرة، صفت حواسه ولطفت، ولازمته خطرات النفس، وسمع
خطابا يتولد من الجوع والسهر، لا وجود لذلك الخطاب -والله- في الخارج، وولج
الشيطان في باطنه وخرج، فيعتقد أنه قد وصل، وخوطب وارتقى، فيتمكن منه الشيطان،
ويوسوس له، فينظر إلى المؤمنين بعين الازدراء، ويتذكر ذنوبهم، وينظر إلى نفسه بعين
الكمال، وربما آل به الأمر إلى أن يعتقد أنه ولي، صاحب كرامات وتمكن، وربما حصل له
شك، وتزلزل إيمانه(3)".
ولا شك أن
المسلم في غنى عن كل هذه المحاولات الفلسفية، والتوازن الحقيقي للنفس الإنسانية
تتجلى من خلال تحقيق العبودية لله، والالتجاء به والاعتصام به، والتوكل عليه،
والمسلم ليس بحاجة إلى سلوك الطرق الفلسفية من أجل تحقيق ذلك التوازن، فالله
سبحانه وتعالى أمرنا بالسير في الأرض من أجل أن نرى آياته وبديع خلقه، والسير في
الأرض من أهم الأمور التي تظهر عظمة الخلق –جل جلاله-، وتظهر آثاره على النفس،
ودين الله لا يأتي بما تستحيله العقول، كما أن الاعتماد على الرهبانية هو تنطع
وغلو وانحراف عن مشكاة النبوة، والرسول صلى الله عليه وسلم عالج تلك الانحرافات
الفكرية والنفسية فقال" أما واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ
وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ
النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي."، فلا مجال للحياد عن
طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أراد النجاة فليستمسك بسنته وطريقته،
فبها تعمر القلوب والأرواح، وبها تتحقق السعادة في الدارين، ومن رغب عنها فقد خسر
الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
🖋@HossainAlsyed
1441/10/19
__________________________________
(1) هي سبعة قوانين، تسمى بالقوانين الروحية السبعة، وهذه القوانين قديمة، إلا أن "ديباك تشوبرا" جمعها في كتابه "القوانين الروحية السبعة" وتحدث عنها بإسهاب، وسوف أتحدث عنها في مقالات قادمة بحول الله وقوته.
(2) مقتبس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: (م13/ص136).
(3) سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، (م12/ص90).
تعليقات
إرسال تعليق