النية محلها العقل!

 


💡لقد أصبح للنية طاقة مذهلة، إنها تخلق ما يريده الإنسان، لقد استطاعت أن تحول الفكرة إلى عالم المادة!، كما أصبح لها تجارب وممارسات على مستوى الفرد والجماعة، تهدف إلى الوصول إلى اليقظة الروحية!

لقد تجاوزت من كونها عملاً قلبيًا للفرد إلى ممارسة جماعية، وكثيرًا ما نسمع عن قانون النية، وإطلاق النية، وقوة النية، فما حقيقة هذه النية؟

لا شك أن مصطلح النية هو مصطلح شرعي له دلالاته المعتبرة من ناحية اللغة ومن ناحية الشرع، فالنية التي نعرفها معناها القصد، ومفهومها الشرعي هو صرف العبادة لله وحده لا شريك له.  

إلا أن ثمة مفهوم آخر للنية يظهر من خلال فلسفة الطاقة الكونية، وهذا المفهوم يمكن تصوره من خلال ما يقصده رواد الفكر الباطني الحديث أمثال "ديباك تشوبرا" حيث يعرف هذه النية فيصفها بالقوة الخلَّاقة التي تحقق ما نريد"، وفي كتابهما عن الطاقة المذهلة للنية المتعمدة يعرف الزوجان "استر وجيري هيكس" هذه النية في إطار "الخلق المتعمَّد"، إنه التركيز عن قصد من أجل الوصول إلى نتيجة نهائية وهو التجلِّي.

وفي تجربتها للنية تقرر "لين ماكتاغريت" أن الأفكار تؤثر على المادة، وأن الإنسان يخلق ويؤثر في كل لحظة، مستشهدة بتجربة المعالجين الروحانيين من الرهبان البوذيين، ومعلموا الـ"تشي كونغ" والشامان الذين استطاعوا السيطرة على النية، وتمكنوا من تقديم نتائج استثنائية استخدموا فيها أفكارهم لإحداث تأثير قوي.

ومن خلال ما سبق يتضح لنا أن مفهوم النية بمدلولها الفلسفي يقوم على مبدأ التأثير في الأشياء بواسطة العقل والتركيز عن قصد لبلوغ التجليات اللحظية. 

بمعنى آخر؛ فإن المفهوم الفلسفي للنية يدعوا الإنسان إلى تركيز انتباهه على شيء ما أو فكرة أو حالة يراقبها، وهو في هذه الحالة يقوم بتفعيل الاهتزاز ورفع حالة الوعي لديه من أجل الاتصال بالمصدر!

وهذا هو عين ما قرره الفلاسفة في الفكر الشرقي القديم حين استطاعوا أن يحولوا قدرة الإنسان في التفكير إلى طقوس يومية، فلا يمكن أن تتحد النفس "أتمان" مع الإله "براهمان" إلا من خلال النية، فهي تلعب دورًا أساسيًا في عالم التجلي، "إنها تخلق المصادفات"، وكل "ما تنويه سيبهرك في تجليه".

وقد كرّسَ أولئك الفلاسفة في تعاليمهم على مبدأ النية، ورأوا فيها قوة تعزز لمعتقدهم حول اتحاد النفس مع الإله، وقد جاء في نصوص الفيد في الفكر الهندي القديم أن "جوهر الإنسان نيته ".

وهذا الأمر يتضح أكثر من خلال مفهوم الــ"سانكالبا"، وهو مفهوم يقوم على فكرة التناغم بين العقل والجسد من أجل منح الإنسان القوة الغامضة للإرادة، والتي تجعله يجلب الحقائق على الواقع، إنها ببساطة "القدرة التي يحتاجها العقل لخلق الفعل".

وفي البوذية لا يمكن الوصول إلى اليقظة التامة إلا من خلال وجود وعي عال مؤسس على مراقبة الانتباه والعيش ضمن اللحظة الراهنة، وكل تلك الخطوات يمكن تصورها من خلال عملية السماح لقوة النية أن تظهر تلك التجليات بقوة التخيل والتركيز.

ولأجل الوصول إلى الــ"مينغ" وهي الحالة التي يتوقف المرء عندها عن الشعور بالازدواجية والانفصال، ويقوم فيها بإدراك طبيعته الحقيقية عندما يصبح متحدًا مع الـ"طاو" تظهر قانون النية لتخضع الإنسان على التخلي عن إرادته الخاصة، والعيش في حالة من النشاط غير الفاعل على نحو متعمد أو بنية واعية تسمح ببساطة للـ"طاو" بالعمل من خلاله.

تجلي النوايا في عالم الحواس والمادة يمكن تصورها من خلال ما يقرره المنظرون لفلسفة الطاقة الكونية من أن " المبدأ الفكري ينعكس على جميع أنماط السلوك "، بمعنى أن ما يفكر به الإنسان سيظهر في تجلياته.

فالنية هي الأفكار، والأفكار هي الطاقة، والطاقة هي التجلي، "وكل ما يضعه الإنسان ضمن انتباهاته سيصبح له حضور أقوى في حياته".

وهذا يعني أن مفهوم النية في الفكر الباطني الحديث هو قدرة الإنسان على تحويل الانتباه إلى واقع ملموس، قد تختلف الطرق من تأمل كوني وممارسة رياضة روحية، وجذب كوني، وبرمجة ذهنية مكثفة، ووعي كوني يصل من خلالها الفرد إلى القوة الخارقة للعقل الباطن، والخلق الفعال، والتحرر الذاتي، والحرية الروحية، والتأثير على المادة.  

وبطبيعة الحال؛ فإن الأثر الناتج عن هذه النية هي خلق الإنسان لواقعه، ومعايشة تجليات اللحظة الراهنة، من خلال صفاء الذهن، ومراقبة الانتباه، وتحصيل اليقظة الداخلية للنفس، وفهم العلاقة مع الذات اللامادية، والقدرة على الحفاظ على انسجام اهتزازي ثابت مع تلك الذات.

كل هذه الأمور تجعل من ذلك الإنسان المتصل مع الذات اللامادية إنسانًا كونيًا يخلق ويفعل، ويشأ فيُحْدث!

نعم يشاء فيُحْدث في كون زعموا أنه "ذبذبي وليس قيمي"، فهو لا يعترف بدين! ولا ينظر للمبادئ والقيم! اللهم إلا أنه في حالة استجابة دائمة؛ فما ينويه الإنسان من خير أو شر سينعكس عليه إما في هذه الحياة أو حيوات أخرى بحسب موقعه من تكرار المولد.

 كما أنه يلغي مبدأ الأسباب، ويرجع الخلق والتكوين إلى الإنسان نفسه، َعلى قاعدة "يشاء فيُحْدِث".

وأما القدر فيمكن تصوره من خلال "ذبذبية الكون"، ويتجلَّى حين يرفع الإنسان وعيه الروحي ويعيش ضمن مستويات روحية عالية الذبذبة، فيُحْدث ويخلق بمشيئته، ويقول للشيء كن فيكون! "يشاء فيُحْدِث".

وبهذا يتضح لنا أن النية بمفهومها الفلسفي لا تتفق مع مدلولها اللغوي، وتتجاوز الحقيقة الشرعية، لتمنح الفرد قوة ينطلق من خلالها عبر عقله الباطن إلى صناعة المعجزات! وتحقيق الأماني والرغبات! من غير حاجة للأسباب والمسببات! "يشاء فيُحْدِث".

ولذلك كانت هذه النية العقلية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالروح، واستسلام آمن للنفس لقوة الكارما، فتراقب الفرد على تصرفاته وأعماله، وتحاسبه عليها.     

والحقيقة أن النية في التصور الإسلامي جاءت لتوجد الفرق بين العادة والعبادة، وتميزت بكونها عملا قلبيا، لا يشرع التلفظ بها، وقد ينوي الإنسان عملا صالحا ولا يعمله ويؤجر عليه، وقد ينوي شرا ولا يعمله، ولا يؤاخذ عليه، وقد رفع عن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الخطأ والنسيان وماحدثوا به أنفسهم، ذلك لأن الفرق بين النية القلبية والنية العقلية هو أن القلب يدفع الإنسان للإخلاص لله، وصرف العبادة له وحده لا شريك له.

بينما جاءت النية العقلية بمفهومها الفلسفي لتحول خطرات الإنسان إلى ذبذبات تتصل بالكون، والمصدر اللامادي، والروح الكونية، والعقل الكلي، والجوهر المطلق، وتجعل الإنسان يردد تلك النوايا بتوكيدات نفسية، وإيحاءات عقلية، ونداء لقوة الطبيعة، واتحاد مع الذبذبات الكونية، ولكي يصل إلى حالة نفسية يسمح من خلالها معايشة تجليات اللحظة في عالم الخيال والتأمل!

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وهدانا إلى الحق والصواب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

@HossainAlsyed


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرياضات الروحية، خطوة نحو التحرر الروحي!